فصل: من فوائد ابن جزي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال الزجاج: أي لا يبلغ كُنْه حقيقته؛ كما تقول: أدركت كذا وكذا؛ لأنه قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة.
وقال ابن عباس: {لا تدركه الأبصار} في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة؛ لإخبار الله بها في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
وقاله السُّدِّي.
وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة وسيأتي بيانه في يونس.
وقيل: {لا تدركه الأبصار} لا تحيط به وهو يحيط بها، عن ابن عباس أيضًا.
وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه؛ إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وقيل: المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرًا وإدراكًا يراه به كمحمد عليه السلام؛ إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزةٌ عقلًا، إذ لو لم تكن جائزةً لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلًا، ومحالٌ أن يجهل نبيّ ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزًا غير مستحيل.
واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربّه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة ثلاثٌ من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على الله الْفِرْية.
قلت: ما هنّ؟ قالت: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية.
قال: وكنت متكئًا فجلست فقلت: يا أمّ المؤمنين، أنْظِريني ولا تُعْجِلِيني، ألم يَقُلِ الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} [التكوير: 32].
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى}؟ [النجم: 13] فقالت: أنا أوّل هذه الأمة من سأل عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًا عِظم خلقِه ما بين السماء والأرض» فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير}؟ [الأنعام: 103] أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} إلى قوله: {عَلِيٌّ حَكِيمٌ}؟ [الشورى: 51] قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله فقد أعظم على الله الْفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] قالت: ومن زَعم أنه يُخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الْفِرْية، والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65].
وإلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل: ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه إنما رأى جبريل، واختلف عنهما.
وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعةٌ من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين.
وعن ابن عباس أنه رآه بعينيه؛ هذا هو المشهور عنه.
وحجته قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11].
وقال عبد الله بن الحارث: اجتمع ابن عباس وأبَيّ بن كعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدًا رأى ربّه مرتين.
ثم قال ابن عباس: أتعجبون أن الخَلّة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
قال: فكبّر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسّم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلّم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم.
وحكى عبد الرزّاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربّه.
وحكاه أبو عمر الطَّلَمَنْكيّ عن عِكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأوّل عنه أشهر.
وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربّه؟ فقال: نعم.
وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآها حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد.
وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعريّ وجماعة من أصحابه (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم) رأى الله ببصره وعيني رأسه.
وقاله أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن.
وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربّه.
وقال جماعة منهم أبو العالِية والقُرَظِيّ والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربّه بقلبه وفؤاده؛ وحكى عن ابن عباس أيضًا وعكرمة.
وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجَبُنَ عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار.
وعن مالك بن أنس قال: لم يُرَ في الدنيا؛ لأنه باق ولا يُرَى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورُزقوا أبصارًا باقية رأوا الباقي بالباقي.
قال القاضي عِياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة؛ فإذا قوّى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقّه.
وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في الأعراف إن شاء الله.
قوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه.
وإنما خصّ الأبصار لتجنيس الكلام.
وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يُدركون الأبصار؛ أي لا يعرفون كيفية حقيقةِ البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يُبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه.
ثم قال: {وَهُوَ اللطيف الخبير} أي الرفيق بعباده؛ يقال: لَطَف فلان بفلان يَلْطُف، أي رفق به.
واللطف في الفعل الرفْقُ فيه.
واللُّطف من الله تعالى التوفيق والعِصمة.
وألطفه بكذا، أي بَرّه به.
والاسم اللَّطف بالتحريك.
يقال: جاءتنا من فلان لَطَفة؛ أي هَدِيّة.
والملاطفة المبارّة؛ عن الجوهري وابن فارس.
قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبيرٌ بمكانها.
وقال الجُنَيد: اللّطيف من نوّر قلبك بالهدى، ورَبَّى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البَلْوَى، ويحرسُك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المَأْوى.
وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيرهِ.
وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في الشُّوَرى إن شاء الله تعالى. اهـ.

.من فوائد ابن جزي في الآية:

قال رحمه الله:
{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يعني في الدنيا؛ وأما في الآخرة، فالحق أن المؤمنين يرون ربهم بدليل قوله: إلى ربها ناظرة، وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة صريحة، لا تحتمل التأويل، وقالت الأشعرية إن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة عقلًا، لأن موسى سألها من الله، ولا يسأل موسى ما هو محال، وقد اختلف الناس هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لا {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} قال بعضهم: الفرق بين الرؤية والإدراك أن الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى غايته، فلذلك نفى أن تدرك أبصار الخلق ربهم، ولا يقتضي ذلك نفي الرؤية وحسن على هذا قوله: وهو يدرك الأبصار وهو الخبير بكل شيء، وهو يدرك الأبصار لإحاطة علمه تعالى بالخفيات {اللطيف الخبير} أي لطيف عن أن تدركه الأبصار وهو الخبير بكل شيء، وهو يدرك الأبصار. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال جمهور المفسرين معنى: الإدراك الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته فالأبصار ترى البارئ جل جلاله ولا تحيط به كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به.
وقال سعيد بن المسيب في تفسيره: قوله لا تدركه الأبصار، لا تحيط به الأبصار.
وقال ابن عباس: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به.
فصل:
تمسك بظاهر الآية قوم من أهل البدع ووهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا: إن الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلًا، لأن الله أخبر أن الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية، إذ لا فرق بين قوله أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أن قوله لا تدركه الأبصار بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة وأن رؤيته غير مستحيلة عقلًا واحتجوا لصحة مذهبهم بتظاهر أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تبارك وتعالى للمؤمنين في الآخرة قال الله تبارك وتعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} ففي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال الشافعي رحمه الله: حجب قومًا بالمعصية وهي الكفر فثبت أن قومًا يرونه بالطاعة وهي الإيمان وقال مالك لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الكفار بالحجاب وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وفسروا هذه الزيادة بالنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى يوم القيامة.
وأما دلائل السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}» أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «أن ناسًا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضامون في القمر ليلة البدر؟ قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم ترونه» كذلك أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي وليس عنده في أوله أن أناسًا سألوا ولا في آخره ليس دونها سحاب.
عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخليًا به يوم القيامة؟ قال: نعم قلت وما آية ذلك من خلقه؟ قال: يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليًا به قلت بلى قال: «فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله جل وأعظم».
أخرجه أبو داود وأما الدلائل العقلية، فقد احتج أهل السنة أيضًا بهذه الآية على جواز رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، وتقريره، أنه تعالى تمدح بقوله لا تدركه الأبصار فلو لم يكن جائز الرؤية وتحقيق هذا أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية.
ثم إنه قدر على حجب الأبصار عنه كانت القدرة دالة على المدح والعظمة فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة، لأن موسى صلى الله عليه وسلم سأل الرؤية بقوله: أرني أنظر إليك وذلك يدل على جواز الرؤية، إذ لا يسأل نبي مثل موسى ما لا يجوز ويمتنع وقد علق الله الرؤية على استقرار الجبل بقوله فإن استقر مكانه فسوف تراني.
استقرار الجبل جائز.
والمعلق على الجائز جائز.
وأما الجواب عن تمسك المعتزلة بظاهر هذه الآية في نفي الرؤية، فاعلم أن الإدراك غير الرؤية، لأن الإدراك هو الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، والرؤية: المعاينة للشيء من غير إحاطة.
وقد تكون الرؤية بغير إدراك كما قال تعالى في قصة موسى: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا} وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم ولكن قاربوا إدراكهم إياه فنفى موسى الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا والله تعالى يجوز أن يرى في الآخرة من غير إدراك ولا إحاطة لأن الإدراك هو الإحاطة بالمرئي وهو ما كان محدودًا وله جهات والله تعالى منزه عن الحد والجهة لأنه القديم الذي لا نهاية لوجوده فعلى هذا أنه تعالى يرى ولا يدرك وقال قوم: إن الآية مخصوصة بالدنيا.
قال ابن عباس في معنى الآية: لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة وعلى هذا القول فلا فرق بين الإدراك والرؤية قالوا ويدل على هذا التخصيص قوله: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} فقوله: {يومئذ ناظرة} مقيد بيوم القيامة على هذا يمكن الجمع بين الآيتين وقال السدي: البصر بصران: بصر معاينة وبصر علم فمعنى قوله: {لا تدركه الأبصار} لا يدركه علم العلماء ونظيره ولا يحيطون به علمًا هذا وجه حسن أيضًا والله أعلم.
وقوله تعالى: {وهو يدرك الأبصار} يعني أنه تعالى يرى جميع المرئيات ويبصر جميع المبصرات لا يخفى عليه شيء منها ويعلم حقيقتها ومطلع على ماهيتها فهو تعالى لا تدركه أبصار المبصرين وهو يدركها {وهو اللطيف الخبير} قال ابن عباس: بأوليائه الخبير بهم.
وقال الزهري: معنى اللطيف الرفيق بعباده.
وقيل هو الموصل الشيء إليك برفق ولين.
وقيل هو الذي ينسى عباده ذنوبهم لئلا يخجلوا وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء.
وقال أبو سليمان الخطابي: اللطيف هو اللين بعباده يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويوصل إليهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون.
وقال الأزهري: اللطيف في أسماء الله تعالى معناه الرفيق بعباده.
وقيل: هو اللطيف حيث لم يأمر عباده بفوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم.
وقيل: هو اللطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ولم يقطع عنهم بره وإحسانه عند المعصية.
وقيل: هو الذي لطف عن أن تدركه الأبصار وهو يدركها. اهـ.